فصل: تفسير الآية رقم (81):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: محاسن التأويل



.تفسير الآية رقم (81):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُواْ مِنْ عِندِكَ بَيّتَ طَائفَةٌ مّنْهُمْ غَيْرَ الّذِي تَقُولُ وَاللّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكّلْ عَلَى اللّهِ وَكَفَى بِاللّهِ وَكِيلاً} [81].
{وَيَقُولُونَ} أي: المنافقون، إذا أمرتهم بشيء، وهم عندك: {طَاعَةٌ} بالرفع.
أي: أمرنا وشأننا طاعة، ويجوز النصب بمعنى: أطعناك طاعة، كما يقول المنقاد: سمعاً وطاعة، وسمعٌ وطاعةٌ.
قال سيبويه: سمعنا بعض العرب الموثوق بهم يقال له: كيف أصبحت؟ فيقول: حمدُ الله وثناءٌ عليه، كأنه قال: أمري وشأني حمدُ الله وثناءٌ عليه، ولو نصب حمد الله كان على الفعل، والرفع يدل على ثبات الطاعة واستقرارها.
{فَإِذَا بَرَزُواْ} أي: خرجوا: {مِنْ عِندِكَ} أي: من مجلسك.
{بَيّتَ} أي: دبر ليلاً.
{طَائفَةٌ مّنْهُمْ} أي: من القائلين المذكورين وهم رؤساؤهم.
{غَيْرَ الّذِي تَقُولُ} أي: خلاف ما قالت لك، من القبول وضمان الطاعة، لأنهم مصرون على الرد والعصيان، وإنما يظهرون ما يظهرون على وجه النفاق.
تنبيهان:
الأول: في القاموس وشرحه وبينت الأمر: عمله أو دبره ليلاً.
وقال الزجاج: كل ما فكر فيه، أو خِيض بليل، فقد بيّت، ويقال: بيت بليل ودبر بليل بمعنى واحد، وفي الحديث: أنه كان صَلّى اللهُ عليّه وسلّم لا يبيّت مالاً ولا يقيله، أي: إذا جاءه مال لا يمسكه إلى الليل ولا إلى القائلة، بل يعجل قسمته. انتهى.
ونقل الرازيّ عن الزجاج أيضاً: أن كل أمر تفكر فيه وتأمل في مصالحه ومفاسده كثيراً، يقال فيه مبيت، وفي اشتقاقه وجهان:
الأول: من البيتوتة لأن أصلح الأوقات للفكر أن يجلس الإِنسَاْن في بيته بالليل، فهناك تكون الخواطر أخلى، والشواغل أقل، فلما كان الغالب أن الإِنسَاْن وقت الليل يكون في البيت، والغالب أنه يستقصي الأفكار في الليل، لا جرم سمي الفكر المستقصى مبيتاً.
الثاني: اشتقاقه من أبيات الشعر، لأن الشاعر يدبرها ويسويها، قال الأخفش: العرب إذا أرادوا قرض الشعر بالغوا في التفكر فيه، فسمَّوُا المتفكِّر فيه، المستقصى، مبيتاً، تشبيهاً له يبيت الشعر، من حيث إنه يسوى ويدبر.
الثاني: تذكير الفعل، لأن تأنيث {طائفة} غير حقيقي، ولأنها في معنى الفوج والفريق، وإسناده إلى طائفة منهم، لبيان أنهم المتصدون له بالذات، والباقون اتباع لهم في ذلك، لا لأن الباقين ثابتون على الطاعة.
{وَاللّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيّتُونَ} أي: يثبه في صحائف أعمالهم بما يأمر به حفظته الكاتبين الموكلين بالعباد فيجازيهم عليه.
قال ابن كثير: والمعنى في هذا التهديد، أنه تعالى يخبر بأنه عالم بما يضمرونه ويسرونه فيما بينهم، وما يتفقون عليه ليلاً من مخالفة الرسول صَلّى اللهُ عليّه وسلّم وعصياه، وإن كانوا قد أظهروا له الطاعة والموافقة، وسيجزيهم على ذلك. انتهى.
وجوز أن يكون المعنى: والله يكتبه في جملة ما يوحي إليك في كتابه، فيطلعك على أسرارهم، فلا يسحبوا أن إبطانهم يغني عنهم، فالقصد لتهديدهم على الأول، وتحذيرهم من النفاق لأن الله يظهره، على الثاني.
{فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} أي: تجاف عنهم ولا تعاقبهم.
{وَتَوَكّلْ عَلَى اللّهِ} أي: ثق بالله في شأنهم، فإن الله يكفيك شرهم وينتقم منهم.
{وَكَفَى بِاللّهِ وَكِيلاً} كفيلاً بالنصرة والدولة لك عليهم.

.تفسير الآية رقم (82):

القول في تأويل قوله تعالى: {أَفَلاَ يَتَدَبّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً} [82].
{أَفَلاَ يَتَدَبّرُونَ الْقُرْآنَ} إنكار واستقباح لعدم تدبرهم القرآن وإعراضهم عن التأمل فيما فيه من موجبات الإيمان، ليعلموا كونه من عنده تعالى، بمشاهدة ما فيه من الشواهد التي من جملتها هذا الوحي الصادق والنص الناطق بنفاقهم المحكي على ما هو عليه.
وأصل التدبر التأمل والنظر في أدبار الأمر وعواقبه خاصة، ثم استعمل في كل تأمل، سواء كان نظراً في حقيقة الشيء وأجزائه، أو سوابقه وأسبابه، أو لواحقه وأعقابه.
{وَلَوْ كَانَ} أي: القرآن: {مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ} تعالى كما يزعمون.
{لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً} بأن يكون بعض أخباره غير مطابق للوقع، إذ لا علم بالأمور الغيبية، ماضية، كانت أو مستقبلة، لغيره سبحانه، وحيث كانت كلها مطابقة للواقع، تعيّن كونه من عنده تعالى.
قال الزجاج: ولولا أنه من عند الله تعالى لكان ما فيه من الإخبار بالغيب، مما يسره المنافقون وما يبيّتونه، مختلفاً: بعضه حق وبعضه باطل، لأن الغيب لا يعلمه إلا الله تعالى.
وقال أبو بكر الأصم: إن هؤلاء المنافقين كانوا يتواطئون في السر على أنواع كثيرة من الكيد والمكر، وكان الله تعالى يُطلع الرسول عليه الصلاة والسلام على ذلك، ويخبره بها مفصلة، فقيل لهم إن ذلك، لو لم يحصل بإخبار الله تعالى لما اطرد الصدق فيه، ولوقع فيه الاختلاف، فلما لم يقع ذلك قط، علم أنه بإعلامه تعالى، وأما حمل الاختلاف على التناقض وتفاوت النظم في البلاغة، فمما لا يساعده السباق ولا السياق، أفاده أبو السعود.
تنبيه:
دلت الآية على وجوب النظر والاستدلال، وعلى القول بفساد التقليد، لأنه تعالى أمر المنافقين بالاستدلال بهذا الدليل على صحة نبوته، أفاده الرازيّ.
وفي الآية، أيضاً، الحث على تدبر القرآن ليعرف إعجازه عن موافقته للعلوم واشتماله على فوائد منها، وكمال حججه وبلاغته العليا، وموافقته أحكامه للحكمة، وأخباره الماضية لكتب الأولين، والمستقبلة للواقع.
قال الحافظ ابن حجر: من أمعن في البحث عن معاني كتاب الله، محافظاً على ما جاء في تفسيره عن رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم وعن أصحابه، الذين شاهدوا التنزيل، وحصل من الأحكام ما يستفاد من منطوقه، ومفهومه، وعن معاني السنة وما دلت عليه كذلك، مقتصراً على ما يصلح للحجة منها، فإنه الذي يحمد وينتفع به، وعلى ذلك يحمل عمل فقهاء الأمصار من التابعين فمن بعده. انتهى.
وقد روى البخاريّ في صحيحه تعليقاً عن ابْنُ عَوْنٍ- وهو عبد الله البصري، من صغار التابعين-، أنه قال: ثَلاَثٌ أُحِبُّهُنَّ لِنَفْسِي وَلإِخْوَانِي هَذِهِ السُّنَّةُ أَنْ يَتَعَلَّمُوهَا وَيَسْأَلُوا عَنْهَا، وَالْقُرْآنُ أَنْ يَتَفَهَّمُوهُ وَيَسْأَلُوا النَّاسَ عَنْهُ، وَيَدَعُوا النَّاسَ إِلاَّ مِنْ خَيْرٍ. وفي رواية فيتدبروه بدل يتفهموه.
قال الكرماني: قال في القرآن: يتفهموه، وفي السنة: يتعلموها، لأن الغالب أن المسلم يتعلم القرآن في أول أمره فلا يحتاج إلى الوصية بتعلمه، فلهذا أوصى بتفهم معناه وإدراك منطوقه. انتهى.
وفي بقية الآية العذر للمصنفين فيما يقع لهم من الاختلاف والتناقض، لأن السلامة عن ذلك من خصائص القرآن، ثم ذكر تعالى عن المنافقين نوعاً آخر من مفاسدهم، وهو إظهارهم أسرار رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم، ومبادرتهم بأخبار السرايا وإذاعتها، بقوله تعالى:

.تفسير الآية رقم (83):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدّوهُ إِلَى الرّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلمهُ الّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتّبَعْتُمُ الشّيْطَانَ إِلاّ قَلِيلاً} [83].
{وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ} أي: مما يوجب أحدهما.
{أَذَاعُواْ بِهِ}
أي: أفشوه، فتعودُ إذاعتهم مفسدة من وجوه:
الأول: أن هذه الإرجافات لا تنفك عن الكذب الكثير.
والثاني: أنه إن كان ذلك الخبر في جانب الأمن، زادوا فيه زيادات كثيرة، فإذا لم توجد تلك الزيادات، أورث ذلك شبهة للضعفاء في صدق الرسول صَلّى اللهُ عليّه وسلّم، لأن المنافقين كانوا يرون تلك الإرجافات عن الرسول، وإن كان ذلك في جانب الخوف، تشوش الأمر بسببه على ضعفاء المسلمين، ووقعوا عنده في الحيرة والاضطراب، فكانت تلك الإرجافات سبباً للفتنة من هذا الوجه.
الثالث: أن الإرجاف سبب لتوفير الدواعي على البحث الشديد والاستقصاء التام، وذلك سبب لظهور الأسرار، وذلك مما لا يوافق مصلحة المدينة.
والرابع: أن العداوة الشديدة كانت قائمة بين المسلمين والكفار، فكل ما كان أمناً لأحد الفريقين كان خوفاً للفريق الثاني، فإن وقع خبر الأمن للمسلمين وحصول العسكر وآلات الحرب لهم، أرجف المنافقون بذلك، فوصل الخبر في أسرع مدة إلى الكفار، فأخذوا في التحصن من المسلمين، وفي الاحتراز عن استيلائهم عليهم، وإن وقوع خبر الخوف للمسلمين بالغوا في ذلك وزادوا فيه، وألقوا الرعب في قلوب الضعفة والمساكين، فظهر من هذا أن ذلك الإرجاف كان منشئاً للفتن والآفات من كل الوجوه، ولما كان الأمر كذلك ذم الله تعالى تلك الإذاعة وذلك التشهير، ومنعهم منه، أفاده الرازيّ.
{وَلَوْ رَدّوهُ} أي: ذلك الأمر الذي جاءهم.
{إِلَى الرّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ} هم كبراء الصحابة البصراء في الأمور رضي الله عنهم، أو الذين يؤمرون منهم وكانوا لم يسمعوا.
{لَعَلمهُ} أي: الأمر.
{الّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ} أي: يستعلمونه ويتطلبونه وهم المنافقون المذيعون.
{مِنْهُمْ} أي: من الرسول وأولي الأمر، يعني لو أنهم قالوا: نسكت حتى نسمعه من جهة الرسول ومن ذكر معه، ونعرف الحالف فيه من جهتهم، لعلموا صحته وأنه هل هو مما يذاع أو لا؟ وإنما وضع الموصول موضع الضمير، يعني لم يقل لعلموه لزيادة تقرير الغرض المسوق له الكلام، أو لذمهم أو للتنبيه على خطأهم في الفحص عن استخراج وإظهار خفي ذلك الأمر.
قال الناصر في الانتصاف: في هذه الآية تأديب لكل من يحدث بكل ما يسمع، وكفى به كذباً، وخصوصاً عن مثل السرايا والمناصبين الأعداء والمقيمين في نحر العدو، وما أعظم المفسدة في لهج العامة بكل ما يسمعون من أخبارهم، خيراً أو غيره. انتهى.
وقد روى مسلم عن أبي هريرة عن رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم أنه قال: «كَفَى بِالْمَرْءِ كَذِباً أَنْ يُحَدِّث بِكُلِّ مَا سَمِعَ».
وعند أبي داود والحاكم عنه: «كفى بالمرء إثماً»، ورواه الحاكم أيضاً عن أبي أمامة.
هذا، ونقل الرازيّ وجهاً آخر في الموصول، وهو أن المعنيّ به طائفة من أولي الأمر، قال: والتقدير: ولو أن المنافقين ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر لكان علمه حاصلاً عند من يستنبط هذه الوقائع من أولي الأمر، وذلك لأن أولي الأمر فريقان: بعضهم من يكون مستنبطاً، وبعضهم من لا يكون كذلك.
فقوله {منهم} يعني لعلمه الذين يستنبطون المخفيات من طوائف أولي الأمر.
فإن قيل: إذا كان الذين أمرهم الله برد هذه الأخبار إلى الرسول وإلى أولي الأمر هم المنافقون، فكيف جعل أولي الأمر منهم في قوله: {وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ}؟ قلنا: إنما جعل أولي الأمر منهم على حسب الظاهر، لأن المنافقين يظهرون من أنفسهم أنهم يؤمنون، ونظيره قوله تعالى: {وَإِنّ مِنْكُمْ لمنْ لَيُبَطّئَنّ} [النساء: من الآية 72] وقوله: {مّا فَعَلُوهُ إِلاّ قَلِيلٌ مّنْهُمْ} انتهى.
وعلى هذا الوجه يحمل قول السيوطيّ في الإكليل: قوله تعالى: {وَلَوْ رَدّوهُ}، الآية، هذا أصل عظيم في الاستنباط والاجتهاد.
وقول المهايميّ: فلو وجدوا في القرآن ما يوهم الاختلاف لوجب عليهم استفسار الرسول والعلماء الذين هم أولو الأمر، ليعلمهم منهم المجتهدون في استنباط وجوه التوفيق.
وقال بعض الإمامية: ثمرة الآية أنه يجب كتم ما يضر إظهاره المسلمين، وأن إذاعته قبيحة، وأنه لا يُخْبَرُ بما لم يعرف صحته، وتدل على تحريم الإرجاف على المسلمين، وعلى أنه يلزم الرجوع إلى العلماء في الفتيا، وتدل على صحة القياس والاجتهاد، لأنه استنباط. انتهى.
تنبيه:
ما نقله الزمخشريّ وتبعه البيضاوي وأبو السعود وغيرهم، من أن قوله تعالى: {وَإِذَا جَاءهُمْ} عنى به طائفة من ضعفة المسلمين- فإن أرادوا بالضعفة المنافقين، فصحيح، وإلا فبعيد غاية البعد كما يعلم من سباق الآية وسياقها، وكذا ما نوعوه من الأقوال في معناه، فكله لم يصب المرمى، والذي يعطيه الذوق السليم في الآية هو الوجه الأول، ولها إشعار بالوجه الثاني لا تأباه، فتبصر ولا تكن أسير التقليد.
{وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ} بإرسال الرسول وإنزال الكتاب.
{لاَتّبَعْتُمُ الشّيْطَانَ} بالكفر والضلال.
{إِلاّ قَلِيلاً} أي: إلا قليلاً منكم ممن تفضل الله عليه بعقل صائب فاهتدى به إلى الحق والصواب، وعصمه عن متابعة الشيطان، كمن اهتدى إلى الحق في زمن الفترة، كقس بن ساعدة وأضرابه، وهم عشرة، وقد أوضحت شأنهم في كتابي إيضاح الفطرة في أهل الفترة في: الفصل الرابع عشر فانظره.
وانقل الرازيّ عن أبي مسلم الأصفهاني، أن المراد بفضل الله ورحمته، هنا، هو نصرته تعالى ومعونته اللذان عناهما المنافقون بقولهم: فأفوز فوزاً عظيماً، أي: لولا تتابع النصرة والظفر لابتعتم الشيطان، وتوليتم إلا القليل منكم من المؤمنين من أهل البصيرة الذي يعلمون أنه ليس مدار الحقية على النصر في كل حين، واستحسن هذا الوجه الرازيّ.
وقال: هو الأقرب إلى التحقيق.
قال الخفاجي: لارتباطه بما بعده، هذا وزعم بعضهم أن قوله تعالى: {إِلاّ قَلِيلاً} مستنثى من قوله أذاعوه أو {لعلمه} واستدل به على أن الاستثناء لا يتعين صرفه لما قبله، قال: لأنه لو كان مستثنى من جملة اتبعتم فسد المعنى لأنه يصير عدم اتباع القليل للشيطان ليس بفضل الله، وهو لا يستقيم، وبيان لزومه أن لولا حرف امتناع لوجود، وقد أبانت امتناع اتباع المؤمنين للشيطان، فإذا جعلت الاستثناء من الجملة الأخيرة فقد سلبت تأثير فضل الله في امتناع الاتباع عن البعض المستثنى، ضرورة، وجعلت هؤلاء المستثنين مستبدين بالإيمان وعصيان الشيطان بأنفسهم، ألا تراك إذا قلت لمن تذكره بحقك عليه: لولا مساعدتي لك لسُلِبَتْ أموالك إلا قليلاً، كيف لم يجعل لمساعدتك أثراً في بقاء القليل للمخاطب، وإنما مننت عليه بتأثير مساعدتك في بقاء أكثر ماله، لا في كله، ومن المحال أن يعتقد مسلم أنه عصم في شيء من اتباع الشيطان، إلا بفضله تعالى عليه، هذا ملخص ما قرره صاحب الانتصاف، وهول فيه، ولا يخفى أن صرف الاستثناء إلى ما يليه ويتصل به لتبادره فيه، أولى من صرفه إلى الشيء البعيد عنه، واللازم ممنوع، لأن المراد بالفضل والرحمة معنى مخصوص، وهو ما بيناه، فإن عدم الاتباع، إذا لم يكن بهذا الفضل المخصوص، لا ينافي أن يكون بفضل آخر، وقوله تعالى: